في أول يناير من العام 1917 طفت جثة رجل متجمدة على سطح مياه نيافا تحت جسر بتروفسكي في بطرسبورج وكان من الصعب التعرف على صاحبها ، وفيما بعد تبين أنها جثة أسوء رجال الدين سمعة في التاريخ .. الرجل الذي أعتبره الناس قوة شريرة خارقة داخل الحكم القيصري الروسي ، ولقي مئات الألوف حتفهم بسبب عجز الحكومة تحت سيطرته . وبرأي الكثيرون من أفراد الطبقة العليا في المجتمع الروسي فأن هذا الرجل كان بالفعل مصدر كل مشاكل روسيا
القيصرية .
أما بالنسبة لأعدائه فقد كان تجسيدا للشر الذي دمر كل من تجرأ على الوقوف في طريقه إلى السلطة معتمدا أسلوب القتل والفساد مما أدى إلى تقويض سمعة عائلة رومانوف الحاكمة .. الأمر الذي أدى لاحقا إلى خلعها وإعدامها بعد أن حكمت روسيا لثلاثمائة عام .. وبرحيلها تغير تاريخ روسيا إلى الأبد .
القرية الفقيرة التي ولد فيها راسبوتين ..
في قرية نائية في أعماق سيبيريا ولد جريجوري يفموفيتش راسبوتين في 22 يناير 1869 ، كان مولده نحسا على أسرته ، ففي الثانية عشر من عمره أكلت النيران منزله ، وتوفيت والدته ، وبعدها بفترة قصيرة كان يلعب على ضفة النهر مع شقيقه ميشيل عندما جرفهم النهر فلقي ميشيل حتفه أما راسبوتين فتم إنقاذه من قبل احد الفلاحين وظل في غيبوبة اعتقد البعض انه لن يفلت منها ، لكنه أفاق من غيبوبته وهو يتمتع برؤى روحية غريبة وقدرات عجيبة على شفاء الجروح بمجرد لمسها . وحين بلغ سن المراهقة تزوج وكون عائلة ، وكانت تلك مرحلة مضطربة من حياته ، إذ انضم إلى
بعض اللصوص وصار قائدا لهم ، ثم سرعان ما انغمس في حياة الفسق وشرب الخمور ، ولذلك اكتسب اسم "راسبوتين" التي تعنى بالروسية الفاسق الماجن .
كان راسبوتين ضخم الجثة ، طويل القامة ،عريض الصدر، له ذراعان قويتان ، أما راحتا يديه فكانتا كأنهما كلابان من حديد من فرط قوتهما . وكانت الإناث الساقطات ينجذبن إلى هذا الحيوان البدوي الهائل بسهولة ، في الواقع كانت نظرات عينيه النافذة تخترق أعماق النساء فتظن الواحدة منهن بأنها مسحورة أمامه .. لا بل هي مسحورة فعلا .. تمضى مسلوبة الإرادة إلى ذالك الوحش لتجثو أمام قدميه وهى ترتعد ، بل أن الرجال أنفسهم لم يكن احدهم ليجد في نفسه القدرة على مواجهة راسبوتين والتحديق في وجهه طويلا , كانوا يحنون رؤوسهم ويغضون أبصارهم سريعا أمام تلك القوة الخفية التي تشع من ذالك الرجل الغامض .
قالوا بأنه أمتلك قدرات عجيبة في شفاء المرضى ..
الناس في القرية راحوا يتداولون الأعاجيب عن كرامات راسبوتين . في إحدى المرات عجز الطبيب عن شفاء إحدى المريضات حتى كادت أن تهلك ، فبعث أهلها في طلب هذا الساحر فذهب إلى فراشها ورفع يديه إلى السماء مصطنعا هبوط الوحي ، باسطا كفيه بحركات تشنجيه على جسد المرأة ، وأخذ في تلاوة ادعيه عجيبة .. وحدثت المعجزة .. على الأرجح عن طريق الإيحاء المغناطيسي .. فنهضت المرأة من فراشها تروح وتغدو كأنها بعثت من رقدة الموت إلى نشاط الحياة . وكانت لراسبوتين أيضا القدرة على كشف السرقات وإخراج اللص من بين الأشخاص من أول نظرة
طائفة الخاليستي .. وطقوسها السرية الغريبة ..
اتجه راسبوتين إلى كاهن كنيسة واستغل قوته النفسية الخارقة لإقناع هذا الكاهن بان يعطيه ثيابه الكهنوتية القديمة ومعها شهادة مزورة تثبت انه راهب في الكنيسة وبهذا يستطيع أن يجمع التبرعات من جميع القرى المجاورة .
وطاف راسبوتين في رحلة طويلة إلى قرى سيبيريا ، هناك تعرف إلى طائفة سرية اسمها "خاليستي" كانت تجمع بين الورع والفسق ، وشكلت أفكارها القاعدة التي ارتكزت عليها ممارسات "راسبوتين" فيما بعد .
كانت هذه الطائفة تؤمن ببدعة التقرب إلى الله من خلال الخطيئة ، بمعنى إن الإنسان يجب أن يغوص إلى عمق الخطيئة لكي يفهم معنى التوبة الحقيقية ويحصل على الخلاص . وكلمة "خاليستى" معناها الجلادين ، حيث كان أتباعها يجلدون أنفسهم حتى يصلوا إلى حالة النشوى العارمة وبعدها يبدءون بالجنس الجماعي وشرب الخمر فتظهر لهم بعد ذالك رؤى روحية ، وكانت هذه الطقوس تتم بالخفاء في أماكن سرية داخل الغابات والأودية لأنها كانت ممنوعة وتحارب بشدة من قبل رجال الكنيسة والشرطة .
راسبوتين طاف أنحاء روسيا حاجا كما يدعي ، واستطاع أن يجعل لنفسه اسما كرجل روحاني ، فأنتحل دور المؤمن الشافي وراح يفسد النساء القرويات الورعات ، امتلك حجج وأساليب خاصة في مخاطبة العقول ، فأضحى يقنع أي إنسان انه إذا أراد التوبة فعليه أن يمارس الخطيئة أولا ، وكان يعتبر نفسه الوسيلة التي يخطئ الآخرون بواسطتها ، وبالفعل وقعت نساء كثيرات في فخه ، ولم يطل الأمر حتى أوصلت هذه التركيبة العقلية الخطيرة "راسبوتين" إلى العاصمة بطرسبرج وهو في الرابعة والثلاثين من عمره .
بطرسبورج .. المدينة التي اسبغت المجد على راسبوتين ..
في ربيع عام 1903 كانت مدينة بطرسبورج مكانا عالميا نابضا بالحياة ، وفى مجالسها وصالوناتها راحت الإشاعات تنتشر حول شاب يدعى "راسبوتين" يتمتع بقوة شفاء مثيرة للفضول .
وعندما وصل "راسبوتين " إلى بطرسبورج كان مظهره بدائيا ، كان يرتدى معطف من الجلد وحذاء قروي وقميص رائحته اقرب إلى رائحة الماعز ، شعره أشعث اسود وطويل ، ولحيته سوداء كثيفة ومتسخة ، وكان يفرق شعره في المنتصف ويسرحه على جبهته ليخفى على ما يبدو اثر جرح ما .. لكن البعض يقولون انه كان يخفى قرنا ! .. وكانوا يشبهونه بالشيطان ، وكانوا يقولون بأن عينيه تشبهان عينا شخص ممسوس .
وفي حقيقة الأمر ما كان لقروي جلف مثل راسبوتين أن يبرز ويشتهر لولا الظروف الحساسة التي كانت تمر بها روسيا في تلك المرحلة من تاريخها ، فخلال السنوات الأولى من القرن العشرين كانت روسيا تعانى من فوضى داخلية وتهديد خارجي ، وكان الأغنياء والنبلاء يسعون وراء التسلية والعبث غير مكترثين بالفقراء والكوارث المحدقة بالبلاد . أما الكنيسة فكانت تبحث بين عامة الناس عن رجل يمتلك قوة روحية حقيقية .. وحتى الحكم القيصري كان يبحث عن أشخاص على شاكلة راسبوتين ليضفي على نفسه نوعا من السلطة الإلهية .. وهكذا فأن سمعة راسبوتين كمبشر ، إضافة إلى الإشاعات حول قدراته الخارقة ، كانت قد سبقته إلى المدينة ومهدت له سبيل الوصول إلى صالونات النبلاء وأغنياء العائلات .
راسبوتين وجد طريقه بسهولة إلى مجالس الطبقة البرجوازية العليا في المدينة ، وهناك قابل سيدة تدعى " اولجالوكينا " كانت تعانى من مرض عضال عجز الأطباء عن علاجه ، لكن راسبوتين اكتشف بأن مرضها مرتبط بجذور الاكتئاب لديها وأقنعها بضرورة امتلاكه لروحها وجسدها لكي يتم علاجها .. ولقد نجح العلاج نجاحا باهرا ! .. وهكذا أصبحت " اولجالوكينا " عشيقة راسبوتين وبدأت تعلمه القراءة والكتابة وآداب السلوك ، ثم قدمته إلى صديقاتها الكونتيسات فانبهرن به أيضا ، وسرعان ما اشتهر بقدرته الخارقة على قراءة المستقبل من خلال نظرة العين .
وفى أوائل نوفمبر 1905 ، في قصر أحد النبلاء ، حدث أول لقاء بين " راسبوتين " والقيصر " نيقولاس الثاني " وزوجته القيصرة " الكسندرا " ، واخذ راسبوتين في الحديث بدون أي تكلفة أو صبغة رسمية إلى القيصر الذي تأثر جدا به وهو يروي لهما عن الحياة المظلمة القاسية في سيبيريا وعن فقر وبؤس البسطاء وصبرهم اللانهائي .. وعن وجود الله في كل أحداث اليوم الصغيرة ، وكيف أعطاه الله قوة روحية ليشفى بها أعصى الأمراض .
العائلة القيصرية .. الامير الكسي جالس على الأرض ..
كان وريث العرش الوحيد الطفل " اليكسي" مصاب بمرض نادر وخطير وعضال آنذاك ، وهو مرض الناعور ، ويدعى ( الهيموفيليا ) ، بمعنى أن أي نزيف دموي ناتج عن جرح بسيط لن يتخثر وسيبقى الدم يخرج بصفة مستمرة مما يؤدى بحياة المريض . وكانت القيصرة بحاجة إلى من يشفى ابنها لأنها كانت السبب في جلب مرض الناعور إلى عائلة "رومانوف" ، إذ ورثته عن جدتها فيكتوريا ملكة انجلترا ، وكانت ترى في مرض ابنها عقابا من الله .
وفى العام 1906 تم استدعاء " راسبوتين " إلى قصر القيصر ليروا إذا ما كانت قدراته الشفائية مفيدة أم لا ، وكان لوصوله تأثير مهدئ عجيب على القيصرة التي كانت في حالة هسترية وكانت تظن بان ابنها لن يشفى إلا بمعجزة ، ودون أن يرى ولي العهد الصغير طمأن راسبوتين القيصرة وقال بأن مرض أبنها ليس خطير ثم ذهب إلى غرفة الطفل حيث كان راقدا في السرير ، وما أن لمس " راسبوتين " الطفل حتى توقف نزيف الدم في الحال .. ويبدو أنه استخدم التنويم
المغناطيسي الإيحائي في علاج الطفل .. وبعد ذالك أصبح تردد راسبوتين على القصر يزداد أكثر فأكثر ، وأدت حادثة في 1912 إلى ترسيخ موقعه في القصر ، حيث كانت القيصرة تركب الخيل مع ابنها الأمير " اليكسى " الذي سقط عن حصانه وأصيب بنزيف وسالت دماؤه ، ولأن راسبوتين كان مسافرا بعيدا عن العاصمة آنذاك ، فقد أرسلت القيصرة برقية إليه تستعجل عودته . وقد ورد راسبوتين على القيصرة ببرقية جوابية قال فيها: " إن الله استمع إلى صلواتك ورأى دموعك ولهذا فأن طفلك لن يموت ، لكن اخبري الأطباء بالا يزعجونه كثيرا وضعي هذه البرقية فوق رأسه".
تعليقات
إرسال تعليق